محمد دياب يكتب :
الكذب ليس جديدًا على المجتمعات البشرية فهو قديم قِدم الإنسان ذاته. يُمارس البعض الكذب باحترافية وكأنه هواية بينما ينكشف آخرون في لحظات محرجة عندما تعجز قصصهم عن الصمود أمام الحقيقة. المشكلة الأكبر ليست في وجود الكذب بحد ذاته بل في أن هناك من يجد متعة خاصة في ممارسته دون أن يشعر بالخجل أو الندم عند افتضاح أمره.
هؤلاء الأشخاص يتقنون الكذب لدرجة تجعلهم أقوى من الموقف المحرج، ويتعاملون مع الافتضاح وكأنه مجرد عقبة بسيطة لا تؤثر على استمرارية خداعهم
تتطلب ممارسة الكذب بمهارة أن يكون الكاذب ذا ذاكرة قوية. أي أن يتذكر ما قاله من أكاذيب في السابق حتى لا يقع في تناقضات تكشف زيفه. الكاذب الذي لا يملك هذه القدرة يواجه مشكلة كبيرة فكلما أعاد رواية كذبته سيضيف أو يحذف تفاصيل دون أن يدرك ذلك.
هذه التناقضات هي ما يجعل المحققين والمحترفين قادرين على كشف الكذب بسهولة حيث يتلاعب الكاذب بتفاصيل قصته في كل مرة يرويها ما يؤدي في النهاية إلى انهيارها
الذاكرة ليست مجرد أداة لتكرار الكذب بل هي جزء من فن الخداع. الكذّاب المحترف يُبقي تفاصيل كذبته مترابطة بحيث يصعب اكتشافها إلا بعد فحص دقيق.
لكن هذا النوع من الكذب رغم اتقانه يحمل داخله رائحة الشك التي لا يمكن إخفاؤها فالناس دائمًا ما يشعرون بشيء غير طبيعي حتى وإن لم يتمكنوا من تحديده بدقة
الكذب المتقن هو أصعب أنواع الكذب التي يمكن كشفها. هذا النوع لا يعتمد على تناقضات واضحة بل على تفاصيل دقيقة مدروسة بحيث تجعل الكذبة تبدو وكأنها حقيقة.
الكاذب الماهر يعرف جيدًا كيف يزرع بذور الشك في عقول الآخرين ويترك خلفه احتمالًا صغيرًا جدًا بأن ما يقوله قد يكون صحيحًا. هذا النوع من الكذب هو الأكثر خبثًا لأنه يستغل ثغرات الإدراك الإنساني ويستفيد من قدرة العقل على الشك في كل شيء
هناك فارق كبير بين الكذب الواضح والكذب المتقن. الكذب الواضح ينكشف بسهولة ولكن الكذب المتقن يبقى عالقًا في ذهن المتلقي ويجعله يتساءل : “ربما كان هذا صحيحًا” هذه هي قوة الكذب المتقن إنه لا يحتاج إلى أن يكون قابلًا للتصديق بالكامل يكفيه أن يترك وراءه أثرًا من الشك
من أكثر الجوانب المثيرة للدهشة في عالم الكذب هو أن بعض الكاذبين لا يشعرون بالخجل حتى عندما يتم افتضاحهم. هذه القدرة على تجاهل الشعور بالإحراج أو التحايل على الحقيقة تمنحهم نوعًا من القوة غير العادية. بينما يُفضح البعض ويسارعون للاعتذار أو التراجع، تجد هؤلاء الكاذبين يستمرون في المضي قدمًا كما لو أن شيئًا لم يحدث
عدم الخجل هو جزء من مواهب الكاذب الماهر. الكاذب الذي يتعرض للانكشاف ويستمر في الكذب دون تردد يجبر الآخرين أحيانًا على التشكك في الحقائق نفسها. هذه القوة تكمن في الاستمرارية فإذا كنت غير خجول عند الافتضاح فإنك تصبح قادرًا على إقناع الآخرين
المسألة ليست مجرد كشف الكذبة بل مواجهة تبعاتها. يجب أن ندرك أن الكذب حتى وإن كان متقنًا يحمل في داخله بذور الفشل.
الكذبة مهما كانت محكمة ستنكشف عاجلًا أم آجلًا. والمجتمع الذي يسعى إلى بناء الثقة والشفافية يحتاج إلى مواجهة هذه الظاهرة بوعي واهتمام لأن الحقيقة هي أساس بناء المجتمعات القوية والمستقرة .
المجتمعات التي تبني قوتها على الصدق والشفافية هي التي تزدهر وتستمر كما ان الكذب قد يكون مغريًا أو حتى فعالًا على المدى القصير لكنه يُضعف الثقة ويهدم العلاقات ويقوّض الأسس التي يقوم عليها التعاون بين الأفراد. إن التمسك بالحقيقة ليس مجرد قيمة أخلاقية بل هو ضرورة لبناء مجتمع متماسك وقوي قادر على مواجهة تحديات الحاضر والمستقبل.
فى النهايه اود ان اقول بأنه مهما بلغت براعة الكذب ومهما أتقن الكاذب تفاصيل خدعته فإن الكذب لا يدوم. الحقيقة قد تتأخر في الظهور لكنها دائمًا تجد طريقها إلى النور وان الكذب رغم قدرته على التلاعب بالعقول وبث الشك يظل هشًا أمام قوة الحقائق الراسخة.