
بقلم: عصام محمد عبد القادر
صورة الاستقرار المجتمعي، نرصدها بوضوح في سلاسة التعاملات اليومية، التي تتضمن العديد من الأحداث الجارية، التي تُحدِث تناغمًا وانسجامًا بين أفراد المجتمع، بمختلف أطيافه، ومتلون عقيدته، وتباين أطره الثقافية؛ ومن ثم تستشعر ماهية الأمن والأمان، وترجأ هذا حتمًا إلى فلسفة الاندماج الاجتماعي المتكامل؛ حيث يحوز الجميع ما نسميه ملامح الأمن الفكري، الذي يكسب الفرد ما يدعى بالمناعة الفكرية، في صورتها الوظيفية.
دعونا نغور في ماهية المناعة الفكرية، التي تعد سياجًا يصون العقل ويوجهه؛ ليعزز الممارسات السوية لدى الفرد، وينفره، أو يجعله يهجر، أو يمتنع عن الممارسات غير السوية، بالأساليب المشروعة، وبواسطة الأدوات المتاحة له، ومن ثم نضع من الحواجز والمناعات ما يجنب الإنسان شتى صور الانحراف، سواءً أكان خلقيًا، أم فكريًا، أم نفسيًا، أم عقديًا، أم اجتماعيًا، أم كل ما قد يتسبب في إشاعة السلبية تجاه الممارسات الحياتية.
حالة الوسطية، أو ما نسميها بالاعتدال الفكري، لا تتأتى دون فهم عميق، وإدراك صحيح، لكافة القضايا، التي تعد محل اهتمام الإنسان، وما قد ينشغل به من تفاصيل تدور حولها؛ ومن ثم تتشكل المناعة الفكرية لديه، وتصبح بمثابة ما يحميه من أي أفكار شائبة، أو معتقدات لا تقوم على قيم يؤمن بها المجتمع، أو تخالف صحيح المعتقد وثوابته المتعارف عليها، وهنا نؤكد أن حالة الاستقرار المجتمعي في شتى مجالاته، مرهونة بتوافر المناعة الفكرية لدى أفراده.
عندما يصبح الفرد قادرًا على التحليل، والنقد، وسرد مكون الفكرة، ولديه ملكة الربط والترتيب المنطقي للأحداث، وما تتضمنه من تفاصيل، ناهيك عن امتلاكه لمفاهيم صحيحة، تشكل المعايير والثوابت، التي تكون لديه بنى معرفية قويمة، وتغذي لديه الوجدان؛ ليمده بالاتجاهات القويمة، في إطار من التقييم الذاتي، هذا في مجمله يعزز المناعة الفكرية لديه، بما يحفظه من الأفكار المشوهة، التي تطلقها جماعات الفكر المتطرف، عبر البوابات والمنصات الرقمية؛ ومن ثم يصعب أن ينجرف خلف تيارات فكرية غير سوية.
جمال المناعة الفكرية، نرقبها في إنسان متحضر، يمتلك مقومات الحوار والتفاعل مع الآخر؛ ليثبت بلغة المنطق السليم، الذي يتقبله العقل الرشيد، أن ثمت مفاهيم تعضد ماهية الإنسانية، وتتفق مع فلسفة مكونها؛ حيث تأكيد قيمة التسامح، التي يقوم على مبدأ القوة وليس الضعف، وتعزيز فكرة الشراكة، التي تتوافق مع مفهوم العطاء بغية نفع البشرية جمعاء، وتأصيل نبل التبادل بين محامد الثقافات، وما بها من تراث تنهل منه العقول، وتستلهم الأفكار، التي تشكل صورة المستقبل المشرق، الذي نستحق أن نعيش جنباته ومفرداته.
رقي المناعة الفكرية نعيشها في مناخ يدعم أطر الديمقراطية المسئولة، التي تبني الأوطان، وتعلي من البنيان، وتساعد في إحداث نهضة مستدامة، تقوم على تضافر الجهود، والعمل المتواصل، والإتقان غير المشروط، ومراقبة الذات، وتوظيف الموارد، بشتى أنواعها البشرية، والمادية، والتقنية؛ ليستطيع الإنسان أن يوجد نمط حياة كريم في مجمله، ومتجدد في مكونه، وهذا لا ينفك بالطبع عن شعور بماهية الحرية، التي تسمح للفرد أن يستثمر طاقاته بأنشطة إيجابية محببة لنفسه، تعود بالنفع المباشر عليه، وعلى المجتمع المحيط؛ ومن ثم تعمل المناعة الفكرية، على تهيئة المناخ للابتكار، والإقدام نحو الريادة، في مختلف مجالات الحياة.
أرى أن ما يشكل خطرًا على المناعة الفكرية، يكمن في جهالة الفرد لقضايا لا غنى عنها؛ حيث ترتبط بمناشطه، وممارساته، ومعتقده، وبطبيعته الإنسانية؛ فأصحاب المآرب من الجماعات المغرضة، تحرص دومًا على استقطاب بسطاء الفكر، وفقراء البنى المعرفية؛ حيث يبثون في عقولهم الأفكار والمعتقدات، التي تقوم على فلسفة الجدال، والتضليل، ناهيك عن الإغراءات، والوعود الكاذبة، التي تحفز مرضى القلوب، ومن لا يمتلك المقدرة على تفنيد تُرّهات القول، وهنا نرصد تنامي حالات الخروج عن السياق المجتمعي؛ نتيجة للاضطرابات الفكرية، التي حدثت جراء فقدان هذه المناعة.
نريد مناعة فكرية، تقينا شرور السقوط في براثن الغلو والتطرف، ونرغب في أن تتحقق أمانينا المشروعة، تجاه تنشئة أجيال تلو أخرى، تتمسك بالوسطية، وتتبنى سبل الاستقامة، وتسلك طرائق الخير في معادها ومعاشها، وتقود الأمة قاطبة لدروب النصر والعزة، وتتجاوز المحن، وتغفر الخطأ والذلة، وتعالج المعوج ولا تكسره، ولا تفرط في ثوابتها، وتعلي من قدر وقيمة الوطن بالقول والفعل، وتدافع عن مقدراته بكل ما أوتيت من حكمة وقوة.. ودي ومحبتي لوطني وللجميع.