
بقلم: عادل السنهورى
الأحلام الصغيرة البسيطة كانت تسابق شمس النهار وندى الصباح، وتفرش الطريق بالأمل حتى يتحقق حلم كل صغيرة منهن فى عمر الزهور.
اليوم يوم جديد من أيام التعب والشقاء فى غيط العنب، رغم أنه يوم إجازة رسمية، يهنأ فيه الناس بالراحة والمتعة ولمة الأهل والأحباب والأصدقاء.
فى الوطن مازال هناك من يعيش زمن “الوسية” و”الحرام” حيث يحشر مقاول الأنفار الصغير والكبير فى جوف عربة متهالكة فى عز حرارة الصيف أو صقيع الشتا لتلقى بهم فى أحد الحقول القريبة لحصد العنب أو جمع القطن من أجل “يومية” من جنيهات قليلة لا تكفى سد الرمق لكنها الرغبة فى العيش والحياة البسيطة والتشبث بالحلم أو بتلابيبه البالية.
الرضا والقناعة هما ذريعة الصبر على ذل الفقر والاستجداء والحاجة فى مجتمع القرية. السنابسة مثلها مثل مئات القرى فى الريف والصعيد البنت فيها “بألف رجل” تخرج للعمل وتتعلم فى المدارس والجامعات وتشعر رغم قسوة الواقع الاجتماعى بأن لها حق- ولو بسيط- فى ملامسة الحلم فى الزواج وفى الدراسة وفى العمل.
كل ذلك لم يشفع لبنات “الوسية” فى القرن الحادى والعشرين. والوسية تعنى فى اللهجة العامية المصرية (العزبة) والتى تضاهى (الإقطاعية) التى يملكها الإقطاعى بمن فيها ومن عليها قبل ثورة يوليو 1952 والتى تحولت إلى مسلسل تليفزيونى عن رواية الدكتور خليل حسن خليل عام 1990. أو أنفار رواية وفيلم “الحرام” التى نشرها الأديب يوسف إدريس عام 1959 وصور فيها حياة عمال التراحيل وهم فئة مهمشة من طبقة الكادحين فى المجتمع القروى المصرى فى إدانة واضحة للنظام الاجتماعى، حيث لا حقوق أو ضمانات تؤدى للفلاح الأجير عامل الترحيلة.
22 فتاة من فتيات قرية السنابسة بالمنوفية انتظرن يوما جديدا من الشقاء والتعب ويلقين بأجسادهن الصغيرة داخل عربة (الميكروباص) قبل أن تشرق شمس صباح الجمعة الأخيرة من شهر يونيو الحارق لتذهب بهن إلى مزرعة العنب وأصحابها من الثعالب (أصحاب الوسية) للحصول فى نهاية اليوم على 130 جنيها.
لكن هذا اليوم لن يأتى فقد اغتال حلمهن الفقير سائق طائش يسير عكس الاتجاه على الطريق الإقليمى وتحطمت السيارة وتلون الأسفلت بلون دم الفتيات الصغيرات وتتهشم أجسادهن الصغيرة التى تحملت معاناة الحياة القاسية والهموم التى حملنها فى سن مبكرة، ليتحول الحلم إلى مأساة وكارثة وحزن ووجع وصرخات وأهات انفجرت فى قلوب كل أم مكلومة فى القرية امتدت إلى قلب كل أمهات مصر.
ليست حادثة طريق راح ضحيتها 19 فتاة فى عمر الزهور وانما هى جريمة اغتيال أحلام الفقراء والبسطاء.. جريمة لا ترتكب بسيارة نقل كبيرة (تريلا) أو بسلاح وإنما ترتكب بالإهمال والتجاهل والتهميش وغياب القانون والرقابة. اغتيل حلم بعيشة كريمة وتعليم يفتح باب المستقبل ووظيفة وعمل تقى من مذلة الحاجة والسؤال تحت وطأة واقع قاس لا يرحم، يغلق النوافذ والأبواب فى وجه أحلام البسطاء وبصمت بارد.
رويدا كانت تغنى مع الفتيات حلم زفافها بعد أسبوعين ولم يتبقى من “جهازها” إلا بعض الحاجات ليلتئم شملها مع عريسها، وشروق الصغيرة -20 عاما- خرجت للعمل فى هذا اليوم لكى تحقق حلم أخوها الصغير بشراء حذاء رياضى (كوتشي)، جنى لم يسعفها القدر لتفرح بنجاحها وتفوقها فى الشهادة الإعدادية بمحافظة المنوفية، التى ظهرت اليوم بعد أقل من 24 ساعة من رحيلها، جنى لم يسعفها القدر لتفرح بنجاحها وتفوقها فى الشهادة الإعدادية التى انتظرتها لتحقيق أحلامها بالعمل صباحا والمذاكرة ليلا، هدير تعمل ممرضة وخرجت للعمل باليومية لمساعدة أهلها فى مواجهه ظروف المعيشة الصعبة. من بين شهيدات لقمة العيش فى طريق الموت شيماء عبد الحميد طالبة كلية الهندسة بجامعة المنوفية كانت تسعى لتدبير مصروفات الدراسة وتخفيف الأعباء عن أهلها.
كل فتاة منهن كانت تحمل حلم وأمل وحكاية قرية حلت عليها الأحزان واتشحت بالسواد كشفت عن إهمال وغياب للقانون وتشويه إنجازات من مسئولى “الدولة العميقة”.
شبكة الطرق العالمية يشوهها إهمال فى بعضها، يحتاج إلى محاسبة ويقظة ضمائر ومراعاة حقوق فئات اجتماعية الحديث عن معاناتها ليس ترفا أو رفاهية فكرية أو مكايدة بل ضرورة إنسانية وأخلاقية.
فالمجتمع الذى يرضى بموت أحلام فقرائه، يسهم فى زرع بذور الغضب، واليأس
الحادث المؤلم والمفجع والمروع يفتح الباب على مصراعيه لعدة أمور، أولها ضرورة تقنين أوضاع العمالة غير المنتظمة، الذين يعملون فى ظروف حياتية صعبة ودون حماية اجتماعية كافية وبأرقام زهيدة، وضرورة توفير مظلة حماية اجتماعية لمساعدتهم على مواجهة الأعباء المعيشية والظروف الطارئة فى حالتى المرض والوفاة، وضمان بيئة عمل آمنة ولائقة بهم، وخاصة النساء العاملات التى تدفع ظروفهن للعمل تحت أى ظرف سبيلًا لتوفير ما يدعم أسرهم ويعزز من حياتهم الاجتماعية والاقتصادية.
الأمر الثانى صيانة شبكة الطرق ووضع ضوابط واضحة لقيادة سيارات النقل الثقيل ومراقبة الطرق بوسائل التكنولوجيا الحديثة تماشيا مع جهود الدولة فى إنشاء وتطوير أضخم شبكة طرق فى تاريخ مصر، الأمر الثالث ضرورة تفعيل قانون المرور بحسم وحزم وتطبيق أقصى العقوبات لمخالفات السائقين. لا نسعى لتوجيه أصابع الاتهام إلى أحد فليس وقته الأن والحكومة عليها أن تتحرك سريعا.
فقد تفاعل الرئيس عبد الفتاح السيسى سريعا مع الحادث الأليم ووجه الحكومة بزيادة التعويضات بمبلغ 100 ألف جنيه لكل حالة وفاة، وبمبلغ 25 ألف جنيه لكل حالة إصابة فوق المبالغ التى قررتها كل من وزارتى العمل والتضامن بشأن حادث طريق أشمون. كما وجه الرئيس الحكومة بمتابعة صيانة وإصلاح الطرق بكل دقة، وخاصة الطريق الدائرى الإقليمى وسرعة الانتهاء منها والتأكد من وجود الارشادات فى مناطق الإصلاح وتعديل مسار الطريق بصورة واضحة، والعمل على إزالة العوائق التى ينجم عنها الحوادث على هذه الطرق بشكل فورى بالإضافة إلى مراقبة السرعة عليها.. استجابة رئاسية تستحق الشكر والإشادة.